الجمعة، 23 أكتوبر 2009

السينما بين الإبداع والنظافة



مر المجتمع المصرى بكثير من التغيرات والتحولات فى العقود الأخيرة .
وبما أن السينما هى مرآة المجتمع فقد شهدت هى الأخرى بعض التغيرات ، فقد ظهر فى السنوات الأخيرة مصطلح السينما النظيفة الذى إبتدعه بعض الفنانين والفنانات الشباب ، يدعو أصحاب السينما النظيفة من أمثال هنيدى وحنان ترك والسبكى لتقديم أفلام خالية من الأحضان والقبلات وخلافه تمشيا مع ما وصل اليه المجتمع من تدين ظاهر وملموس فى العقود الأخيرة ، ولجذب جميع أفراد الأسرة للعودة لقاعة السينما .

إلى هنا والكلام جميل فالمجتمعات المحافظة قد لا تتحمل سقف الحرية المسموح به فى بعض المجتمعات الأخرى .
ولكن المتابع لهذه الموجة يلاحظ أن السمة السائدة لأفلامها هو تميزها بإنخفاض مستواها الفنى والإبداعى وضحالتها الفكرية ، فهى أفلام لها صورة سينمائية باهتة مع سيناريو مفكك وحوار ركيك وفكرة هشة .
أفلام يرفع أصحابها شعار لا للقبلات وأيضا لا لتشغيل العقل وإحترام عقلية المشاهد
أفلام يكفى فيها مشهد إحراق علم دولة أخرى أو السير فى مظاهرة ليتحول الفيلم من فيلم هايف إلى فيلم هادف
أفلام يحمل أصحابها لواء الأخلاق ، ويا للعجب تمتلئ بالإيحاءات والإيماءات الجنسية الصريحة التى يفهمها الجمهور جيدا مع الحفاظ على عدم ظهور القبلة أو المايوه .

السينما هى إنعكاس لحال المجتمع و رقيه وتقدمه ، فالمتابع لأفلامنا الأبيض والأسود القديمة لا يرى فرق كبير بينها وبين الأفلام العالمية المنتجة فى نفس الفترة من ناحية القيمة الفنية ، لأن المجتمع وقتها كان أكثر ليبرالية وأكثر تفتحا وأكثر تذوقا للفنون ، فلم يكن مشهد قبلة لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة مثلا يقلل من مكانتها وقيمتها الفنية لدى جمهورها ، ولم يكن مشهد كهذا يقلل من قيمة الفيلم الذى يتعامل معه المشاهد كأنه عمل فنى وليس وسيلة شيطانية لإثارة الغرائز .


وفى فترة ما بعد الثورة ومع نكسة يونيو ظهرت أفلام تحمل نكسة أخلاقية ومساحة كبيرة من التعرى لم تكن معهودة من قبل مع إنخفاض مستواها الفنى ، وربما كان هذا هروب أو تخدير للمجتمع من الأثار السلبية للهزيمة .


وفى بداية الثمانينات ومع نزوح العديد من المصريين لدول النفط الوهابية وعودتهم محملين بالأفكار السلفية ، تخلت السينما عن جرأتها وتحشمت فناناتها ولكن صاحب ذلك تدهور أكثر وأكثر فى المستوى الفنى ، وذلك بظهور موجة أفلام المقاولات ، وهى فى رأيى أسوء مرحلة فنية مرت بها السينما المصرية .

رواد السينما النظيفة الآن هم الأبناء الشرعيون لهذه المرحلة .
وكما أن أفلامهم النظيفة لا تخلو من الإيحاءات والمضمون الجنسى المتستر ، كذلك المجتمع الآن يبدو ظاهريا فى قمة الورع والتمسك بالفضيلة ، ومع ذلك تفاجئ بأن القاهرة على قائمة أكثر المدن بحثا عن كلمة (sex) فى محرك البحث جوجل على مستوى العالم .


فرق شاسع بين التدين الصحى الذى ينجب أفراد أسوياء نفسيا ، وبين تقييد الحريات وقتل الإبداع بأسم الأديان الذى نمارسه ونتج عنه جيل من الشباب يعانى من الكبت حتى تفشت بينه ظاهرة التحرش الجنسى بصورة لا تنجو منها أى فتاة أو سيدة فى الشارع أيا كان عمرها أو ملبسها ، فكلما زاد الإنغلاق فى المجتمع زاد معه الكبت والسلوك الجنسى الغير سوى ، ولنا فى بعض المجتمعات الخليجية المجاورة المثال الحى لذلك .

فرق شاسع بين أسرة فى مجتمعنا قديما تشاهد فيلم به قبلة بين البطل والبطلة وتخرج بعد الفيلم لا تكفر أبطاله وإنما تتحدث عن جودة الفيلم الفنية فى وسط مجتمع راقى ، وبين أسرة حاليا تشاهد فيلم نظيف من كل شئ حتى من أدنى درجات الإبداع ، وتخرج من قاعة السينما لتتعرض للتحرش والبذاءات فى الشارع على يد جمهور السينما النظيفة .

إن كلامى هنا ليس دعوة للإباحية فى الأفلام كما قد يروج بعض هواة الصيد فى الماء العكر ، وإنما هى دعوة للرقى والإرتفاع بالمستوى الفكرى والفنى والثقافى للأفلام ، ودعوة لرفع التذوق والإحساس بالجمال للمواطن العادى .
فما زلت أحلم بمجتمع يستمتع ويقدر الجمال فى لوحة فنية أو تمثال ، وليس مجتمع يعانى من الكبت حتى أن رؤية مانيكان عارى فى فاترينة تثيره جنسيا !


نشر لى هذا المقال على موقع الحوار المتمدن